كيف حللت حنة آرندت "فرج" في فيلم الكرنك؟
كيف حللت حنة آرندت "فرج" في فيلم الكرنك؟
يُشتهر بعض الأفلام بلقطات أيقونية دون التركيز على العمل بأكمله، مثل المشهد الشهير في فيلم الكرنك حيث تعرضت سعاد حسني للاعتداء من "فرج". لهذا المشهد العنيف أثر عميق، حتى أن كمال الشناوي ذكر أن التصوير تسبب في انهيار الطاقم بأكمله، وسعاد حسني انتفضت من شعور القهر والغضب.
نجد شخصية "فرج" تحديدًا، تجسيدًا لما أطلقت عليه الفيلسوفة حنة آرندت "الشر التافه"، وهو مفهوم تبلور في تحليلها لمحاكمات أدولف آيخمان، أحد أبرز منفذي السياسات النازية. آرندت وصفت الشر بأنه ليس دائمًا نتاج وحوش متعطشة للدماء، بل قد يكون نتيجة لأفراد عاديين، ينفذون أوامر بلا تفكير أو وعي بحجم الجرائم التي يرتكبونها. كما كان آيخمان يرى نفسه مجرد ترس في آلة ضخمة، يُنفذ الأوامر ولا يسأل عن الأخلاق أو الإنسانية، كذلك يعمل "فرج" كأداة في يد النظام القمعي، يُمارس القهر والتعذيب بروتينية باردة.
تطبيق مفهوم حنة آرندت على النظام القمعي في الكرنك
طورت حنة آرندت فكرة "الشر التافه" [1] في تحليلها لمحاكمات أدولف آيخمان. تنطبق بوضوح على فيلم الكرنك، وخاصة في تصوير الآليات القمعية التي يمارسها النظام. آرندت تصف الشر التافه على أنه ليس نتاج وحوش متعطشين للدماء أو أفراد يمتلكون قدرة استثنائية على الشر، بل هو نتيجة لتصرفات بيروقراطيين عاديين ينفذون الأوامر دون تفكير أو شعور بالذنب.
في الكرنك، النظام الذي يدمر حياة الشباب ليس نتيجة عداء شخصي أو دوافع حقيقية، بل هو تعبير عن آلة بيروقراطية تعمل بلا ضمير، يقودها موظفون غير مكترثين، ينفذون أوامر قمعية دون فهم أو مساءلة.
"فرج": تجسيد الشر التافه ودور البيروقراطية في القمع
شخصية "فرج" في الفيلم تجسد هذا الشر التافه بوضوح؛ فهو أداة بيد السلطة، يمارس القهر والتعذيب بلا تأمل أو وعي بحجم الأذى الذي يتسبب فيه. تصرفاته ليست نابعة من قناعة عميقة أو رغبة شخصية في القسوة، بل من روتين بارد يخلو من الإنسانية. هذا الانفصال بين الفعل والضمير هو ما يجعل الشر تافهًا، حيث يتم إلغاء أي تفكير أخلاقي، ويصبح الشر مجرد جزء من العمل اليومي.
يقدم فيلم الكرنك نقدًا قويًا للأنظمة التي تحول الأفراد إلى أدوات لفرض القهر، وتصور كيف يُنفذ الشر الأكبر بواسطة أفراد عاديين، بدون وعي أو نية حقيقية، مما يجعل الشر أكثر رعبًا وتعقيدًا.
هل يمنع تمويل السادات حقيقة ما حدث؟
الفيلم مأخوذ عن رواية نجيب محفوظ الكرنك، التي تروي قصة مجموعة من الشباب الذين سُحقوا بسبب آرائهم المناهضة لنظام عبد الناصر. ورغم أن السادات موّل الفيلم كأداة للهجوم على نظام عبد الناصر، فإن هذا لا يلغي الحقيقة التاريخية التي يعكسها الفيلم. عرض مثل هذه القصص لا يزال يحمل أهمية كبرى، فهو ليس مجرد إدانة لفساد نظام واحد، بل هو تذكير بأن الفساد ظاهرة تتكرر مهما تغير صانعوه.
تفاهة الشر في الستينات
التفاهة والعبث يكمنان في جوهر الأنظمة القمعية التي لا تكتفي بإسكات الأصوات المعارضة بل تمضي في إفساد الحياة ذاتها؛ تلك الأنظمة لا تكتفي بعقاب الضحية على جريمة لم تُرتكب، بل تخلق واقعًا كاملًا يتجاوز الحقائق لتبرير قمعها. عدم اكتراث الجاني بذنبه، عدم تنظيمه وعدم إعداده وتحريره. إنه يحتقر ضحيته لدرجة أنه لا يعرفها. حيث يكون الفرد ضحية لآلية أكبر منه، قوة غير مرئية تتلاعب بحياته دون سبب أو مبرر واضح. هذا التباعد بين الجريمة والعقاب يُظهر مدى هشاشة القيم والمبادئ الإنسانية عندما تُهدر تحت السلطة المطلقة. ينهار النظام الأخلاقي الذي يُفترض أنه يحكم العلاقات الإنسانية. لكن الأغرب هو تحول السلطة المطلقة لحالة من مفضَلات الناس، وعدم اكتراثهم حتى بالمقاومة كما حدث في الخروج لدعم عدم تنحي عبدالناصر.
" - انضميت للشيوعيين إمتى؟
= من 8 سنين
يا إبني خلي ردودك منطقية ...من 8 سنين أنت كنت طالب فى إعدادية
و 8 سنين دي يعني احنا كنا نايمين على ودانا كل ده !!
= سنتين كويس ؟" [2]
كيف يتحول الإنسان من الإيمان للامبالاة
نجيب محفوظ في الرواية يصور ببراعة كيف يتحول إيمان الشخص بالمثل العليا إلى حالة من اللامبالاة بعد أن يتعرض للضغط والقهر. الشخصيات الرئيسية، في نهاية المطاف، تخسر قيمها وتستسلم للواقع القاسي. "نستعيذ من حدتنا بالتلاقي و كأننا نتقي ضربات المجهول بالتلاصق و مخاوف الاحتمالات بتبادل الآراء و هجمات اليأس و الخطايا الكبرى بزفرات الاعتراف الحارة و فظاظة المسئولية بتعذيب النفس و تجهم الجو الخانق بالأحلام المفتعلة. لم نكف لحظة عما كنا فيه و الساعات تمضي في إثر الساعات ونحن نحترق و نتهالك و نخوض ظلمات فوق ظلمات تحتها ظلمات. و لكنهما بمرور الأيام مضي شعورهما بالكارثة يفتر و اهتمامهم بالحياة اليومية يتصاعد ثم انحدرا في طريق اللامبالاة إلا ما استقر في أعماق النفس من حزن دائم خفي." [3]
مشهد الجنس الأخير كتجسيد لخيانة الذات والانهيار الأخلاقي
الكادر الذي اخترته هو تصوير رمزي للجنس الأخير، ليس باعتباره فعلاً جسديًا بل كاستعارة لفشلهم النهائي في التمسك بمبادئهم. لم يكن اتحادهم نتيجة لإيمان مشترك أو تمسك بالقيم التي آمنوا بها يوماً، بل كان نتيجة لانهيار تلك القيم واستسلامهم أمام قسوة الواقع. لقد أصبحوا معًا في لحظة خالية من المعنى، حيث تخلوا عن مبادئهم وتحولوا إلى أشخاص آخرين تمامًا. هذا المشهد يمثل فعلًا أخيرًا من الانهزام ، حيث لا يجمعهم شيء سوى الفراغ الناتج عن بيعهم لأحلامهم وتخليهم عن مثلهم العليا. الجنس يصبح رمزًا للخيانة الذاتية والانفصال عن الهوية، حيث لم يعد لديهم شيء مشترك سوى استسلامهم للعبث واللامعنى.
في نهاية الأمر، يطرح محفوظ فلسفة معقدة عن المعاناة الإنسانية؛ كيف يتحايل الإنسان على العذاب عندما يتجاوز حدوده، ويستخدم السخرية والضحك كآلية للدفاع. . هذه الفكرة، التي تجعل من السخرية وسيلة للتأقلم مع القهر، هي التي تدفعني الآن لعمل خطة كوميدية في حياتي للتغلب على الغضب.
المراجع:
1. آرندت، حنة. أصول الشمولية. دار الساقي، 1951
2. فيلم الكرنك إخراج علي بدرخان
3. محفوظ، نجيب. الكرنك. مكتبة مصر، 1974
السعيد عبدالغني
للإطلاع على مقالات أكثر:
1. المساواة ليست مفهوماً عقلانياً، ديفدوت باتانيك-
تعليقات